يعتبر
المعماري الأردني-الفلسطيني (جعفر طوقان) من رموز العمارة في العالم العربي خلال
القرن العشرين، فمسيرة جعفر كانت عبارة عن نضج معماري بدأ من الحداثة وأنتهى
بالمعاصرة. ولذلك تعكس أعماله حوار حول الفكرة، التصميم والعمل الإنشائي. فهو من
المعماريين العرب الذين أمتازوا بدمج العنصر الإنشائي كعنصر أساسي في التصميم
المعماري. في هذا العدد سنسعى للخروج بأهم التفاصيل لمسيرة هذا المعماري الراحل
حياته:
ولد
(جعفر إبراهيم طوقان) في مدينة القدس عام (1938م). والده هو (إبراهيم طوقان)
الشاعر الفلسطيني المعروف، وعمته هي الشاعرة الفلسطينية (فدوى طوقان)، لم يظهر
(جعفر) أي علامات مبكرة أو ميول للعمارة بشكل خاص، إلا أن ذلك لم يمنعه من إختيار
تخصص الهندسة المعمارية كمسار للدراسة في الجامعة الأمريكية ببيروت، حيث تخرج في
عام (1960م). كان تأثر (جعفر) في البداية تجاه العمارة الحديثة والطراز العالمي،
بحكم التوجه آنذاك في قسم العمارة بالجامعة، حيث يذكر (جعفر) أن مدير القسم كان من
المتأثرين بمدرسة الباهاواس، هذه البيئة رسمت الملامح الأولى لـ(جعفر) لتحليل أو
ممارسة العمارة كما سنرى.
بداياته:
بعد
تخرجه عمل (جعفر) في قسم تصميم الأبنية بوزارة الأشغال في الأدرن، لم يدم كثيراً
في الوظيفة، حيث تركها عام (1961م) ليعود مرة أخرى لبيروت. بعد ذلك عمل في دار
الهندسة للإستشارات الهندسية بين الفترة (1961-1968م) واجهه (جعفر) خلال هذا
الفترة العديد من التحديات، التي جعلته يعيد التفكيرة مرة أخرى في العمارة بشكل
عام، فعلى الرغم من حداثة التوجه للمكتب ولـ(جعفر) إلا أن هناك العديد من المشاريع
التي يتم طلبها وفق إطار تصميم محلي، خصوصاً تلك التي كانت في مدن الخليج. في هذه
الفترة كان (جعفر) مهتماً بزيادة الوعي المعماري له ضمن الإطار الإنشائي. كان مؤمن
وضل كذلك طوال مسيرته، بأن العمل الإنشائي جزء لا يتجزأ من العمل المعماري، ولعل
ذلك ما جعل من أعمال (طوقان) مميزة بشكل كبير. في عام (1968م) أسس طوقان مكتبه
الخاص في (بيروت)، حيث تعد هذه الخطوة بنقطة الإنطلاقة لعالم الإحتراف في مسيرة
طوقان.
الاحتراف:
يعد
مسجد (عائشة بكار) في بيروت (1970م) من أوائل أعمال (جعفر) الإحترافية. المسجد في
حد ذاته، يعد خروج عن النمط السائد في تصميم المساجد بإطارها التقليدي، حيث تحرر
الشكل الخارجي من العقود والقباب التي بات سمة مصاحبة للمسجد. يتميز التصميم بالمنارة
الفردية والعصرية جداً، حيث حاول (جعفر) تجرديها من كل تلك الزخارف التي صاحبتها
منذ عصور الدول الإسلامية، واستبدلها بلعبة الضوء والظل كأحد التوجهات الحديثة
للعمارة، لا يختلف الأمر على المستوى الداخلي، الذي جاء بسيطاً جداً في تكوينه.
فلا زخارف أو قباب، هو فراغ روحاني بسيط لأداء عبادة الصلاة. ما عدا جدارية أضافها
(جعفر) كانت بمثابة محاولة لإعادة صياغة الزخرفة الإسلامية التقليدية، بجداريات
عصرية مختلفة. وهو في رأينا قرار جريء جداً، خصوصاً في مبنى يرتبط وجدانياً
بالإمتداد الحضاري. أختلف الأمر بعض الشيء في تصميم (دار الكاظمي) (1984م) في
الأدرن، حيث ظهرت لمسة عربية حديثة تمثلت في إنحناء بسيط لفتحات النوافد كأقواس.
مع تركيب بصري يعيد مشهد القلاع أو الحصون. وظف (جعفر) الحجر كمادة أساسية على
كامل المبنى مع بروزات متداخلة، ساهمت في إيجاد الظل بشكل رائع. التصميم يستمد
براعته من التكوين الإنشائي للمبنى، والذي حاكى مسألة البحور بشكل متقن. وهو ما
يعكس عمق الرؤية لـ(جعفر) وتمكنه من الإنشاء كعنصر معماري يساعده على صياغة أعماله
ورؤيته المعمارية. كرر (جعفر) نفس الأسلوب في مبنى (البنك العربي) (1986م) وعلى
مقياس أكبر، وأيضاً في مبنى (الشركة الطبية – أكاديما) (1988م) حيث الحجر والظل هي
العلامة الأبرز للتصميم، رغم بساطة التصميم للمسقط الأفقي. على الرغم من محاولاته
لتجسيد اللمسة الإسلامية من خلال الأشكال الهندسية الإسلامية بطريقة بسيطة وغير
معقدة، إلا أنه يمكن القول بأن هذا المبنى، يعد خروجاً من المسار الحداثي إلى
مابعد الحداثة، فالنوافذ المكررة والوحدة لعبت دوراً كبيراً في التصميم، وهو ما
يشير إلى نضوج (جعفر) للتفريق بين الحديث والمعاصر ضمن العمارة العربية.
المنهج والأسلوب:
قد
يصعب تصنيف أعمال (جعفر) لمدرسة واحدة، فالقارئ لأعماله يجد تنوعاً بين عدد من
المدارس المختلفة، إلا أن هذا التنوع يتبع مسار، يمكن وصفه بالنضج المعماري (إن صح
لنا القول). لعل هذا ما يميز عمارة (طوقان) عن بقية المعماريين في أعماله، فهو
أشبه بمسارات تماثل المعماري رينزو بيانو أو نورمان فوستر، وتنقلهم بين مدرسة
وأخرى. بدافع التجديد وتغيير القناعات. هذه الميزة لا تجدها في كثير من المعماريين
الذين يعتمدون على مسار وحيد في محاولة لفرضه كخط إتجاه. ومع ذلك، يمكن الإشارة
إلى أن (جعفر) قد استطاع أن يدمج مابين الحجر والظل في تكوين إنشائي، كميزة أساسية
لأعماله. فهو لا يستنسخ التفاصيل على الواجهات، بل يحاول صناعتها من خلال الهيكل
الإنشائي وكأنها جزء أساسي من المبنى، ظهرت لأسباب واقعية ملحة، وليست لأسباب
جمالية صرفه. هذا الأسلوب تعمله (جعفر) أثناء دراسته في الجامعة الأمريكية في
بيروت، وتشربه كمنهج للتصميم، فهو يمارس القاعدة الأساسية للعمارة الحديثة (الشكل
يتبع الوظيفة) بكل حذافيرها.
الأعمال المميزة:
تتعدد
مشاريع (طوقان) المميزة خلال مسيرته كفيلا (رزق) (1980م) برج (شركة ابوظبي للزيت)
(1995م) ومشروع (نادي ديونز عمان) (1998م) وغيرها من المشاريع المميزة، والتي كان
لـ(جعفر) لمسة مميزة في كل مشروع. إلا أن أكثر مشاريع (جعفر) تميزاً هو مشروع
(قرية الأطفال) في أربد (1999م) والتي لاقت إعجاب الكثير من النقاد على مستوى
عالمي. المشروع يعكس قدرة (جعفر) ومدى إستعابه لتكوين المدينة العربية القديمة،
إلا أنه ومع ذلك إستطاع وبكل براعة إعادة صياغتها ضمن إطار (معاصر) وفق رؤيته
الخاصة، فمن الحجر كمادة بناء وتشييد اساسية مروراً بالتكوين للمخطط العام، يظهر
المشروع وكأنه نسيج واحد في بعد الثنائي والثلاثي على حد سواء. المشروع يعكس جانب
مهم في مسيرة (جعفر) وهو تعاطفه الشديد للمجتمع وتفهمه لإحتياجاته، فلم يفرض
(جعفر) الأسلوب على التصميم، بل حاول أن يكون العمل مكملاً لواقع الأطفال
ومتطلباتهم بشكل سهل وممتع. ولعل هذا سر براعته في هذا العمل تحديداً.
حصل
(جعفر طوقان) على العديد من الجوائز خلال مسيرته المعمارية، كجائزة المشروع
المعماري من منظمة المدن العربية على تصميمه لقريـة أطفال
عمان عام (1988م)، جائزة فلسطين للعمارة (1999 – 2000م)
وجائزة الاغا خان للعمارة لعام (2001م). رحل جعفر عنا في عام (2014م) بعدما ساهم
في صقل الفكر المعماري العربي المعاصر في القرن العشرين. كان خلالها أستاذاً
ومعمارياً، وقبل ذلك عربياً أحب عالمه بكل تسامح وهدوء، ودون أن يدخل في متاهات
الأعراق والجنسيات.