يرتبط اسم المعماري العراقي (رفعت الجادرجي)
في أذهان الكثير من جيل المعماريين في القرن الماضي، فهو أحد المحاولات الجادة نحو
الخروج من القالب التقليدي إلى القالب المعاصر في العمارة العربية. (كان اهتمامي
مُنصَب على إيجاد أسلوب ملائم لمعمار عربي معاصر)، هكذا لخص الجادرجي رسالته
المعمارية في أحد اللقاءات التي أجريت معه. في هذا العدد سنستعرض سيرة هذا
المعماري.
حياته:
ولد (رفعت كامل الجادرجي) في مدينة بغداد
بالعراق عام (1926م). والده هو (كامل الجادرجي) السياسي والوزير المعروف إبان
الحكم الملكي بالعراق. وهو أيضاً مؤسس الحزب الوطني الديمقراطي عام (1946م)
بالمشاركة مع الاقتصادي العراقي (محمد حديد) والد المعمارية الراحلة (زها حديد). لم يُظهر (رفعت) أي ميول تجاه العمارة والفن
في طفولته، ولم تكن تدور في ذهنه دراسة العمارة ولا السياسة أيضاً، إلا أنه بعد
إنهائه للثانوية سافر عام (1946م) إلى لندن ليدرس في جامعة (هامرسميث) فنون
العمارة والتصميم. في تلك المرحلة من حياته التقى بالفنان (جواد سليم) التشكيلي العراقي
المعروف. وفي تلك الفترة أيضاً، تأثر (رفعت) بتقاطع العمارة مع الفنون والفلسفة
ضمن إطارها (الأكاديمي) والتطبيقي والتحليلي. ولعل ذلك ما جعله لاحقاً يتجه نحو القضية
الأهم في مسار العمارة العربية آنذاك، أو ما أسماها بـ(جدلية العمارة).
بداياته:
عاد (رفعت) للعراق في عام (1952م)، ليؤسس مع
عدد من المعماريين (مكتب الاستشاري العراقي) والذي مارس من خلاله (رفعت) أفكاره
للعديد من المباني في تلك الفترة. يشير النقاد إلى أن هذه هي المرحلة الأولى من
حياة (الجادرجي)، والتي تمثل جانب (الممارسة) في مسيرة (رفعت). في هذه الفترة ظهرت
ملامح تأثره بالحداثة، خصوصاً أن مدينة بغداد في فترة الخمسينات كانت تشهد (حداثة)
في قالب ثقافي وفني وبرؤية نحو الانطلاق لتحقيق المجد كمدينة في القرن العشرين.
هذه الحالة الثقافي كان مدفوع بمشاركة المعماريين والفنانين والأدباء العائدين من
البعثات للجامعات حول العالم في تلك الفترة. يمكن القول بأن بداية (رفعت) كانت
(حداثية) بشكل صرف إلى حدٍ كبير. يتضح ذلك مثلاً، في مبنى الشركة الوطنية للتأمين
(1969م) والذي كان مختلف وجديد حتى على (الحداثة) نفسها- إن صح لنا القول- أظهر من
خلاله (رفعت) مدى استيعابه لمدارس العمارة العالمية وقدرته على توظيفها في قالب
معاصر. الخرسانة كانت هي السمة الأبرز بعد الهيكل الإنشائي الواضح للمبنى بلونها
الرمادي. التكوين كان أقرب إلى (الوحشية) ويشبه إلى حدٍ ما انفعالات لوكروبوزييه،
وإن لم يكن بنفس الروح.
الاحتراف:
سرعان ما تحول هذا المسار (الحداثي) إلى
الدمج ما بين (التكنولوجيا) و (المحلية) في محاولة لإنتاج مسار جديد للعمارة
آنذاك، يعتمد على استنباط الشكل وتجديده وتطويره في قالب معاصر، ويتواكب مع
الحراك الفكري والثقافي في بغداد، والذي
كان يسعى إلى إيجاد هوية حداثية. أصبح هذا الدمج فيما بعد سمة تميز أعمال (رفعت)،
ليس في العراق وحسب، بل على مستوى العالم. فلم تشهد العمارة العربية حتى ذلك الوقت
عملاً مشابهاً في الواجهات أو التكوين. أول هذه النماذج كان الشركة الوطنية للتأمين
(1970م) بواجهة مختلفة ومغايرة، استطاع من خلالها (رفعت) أن يُعيد تشكيل الواجهة
بلمسة محلية معاصرة لم تعتمد على النقل والنسخ للمفردة المعمارية القديمة، بل
تمريرها في مسار تطويري وتجديدي لإعادة إنتاجها في قالب معاصر. إضافة (رفعت)
المغايرة في هذا المشروع، كانت في توظيفه لمادة (الطوب الطيني) والتي أعتبرها
النقاد لمسة محلية لتعريب الحداثة، إلا أن (الطوب) لم يكن كساء خارجي لأسلمة أو
تعريب العمل المعماري، فلقد وظفه (الجادرجي) كمادة بناء حقيقة تتفاعل مع بقية
المواد الأخرى كالخرسانة والزجاج في العمل المعماري. وهو ما أستمر يكرره بأساليب مختلفة وفي نفس
الخط التصميمي الذي أبتكره في عدة مشاريع أخرى. في عام (1978م) ترك (رفعت) المكتب
الاستشاري العراقي وتوجه نحو المسار الأكاديمي والكتابة بعد مغادرته لبغداد، إلا
أنه عُين مرة أخرى كمستشار لإعادة إعمار بغداد في منتصف الثمانينات. الجدير
بالذكر، أنه وفي هذه الفترة تولى (رفعت) عدد من المناصب الحكومية. أعلاها درجة كان
رئيس هيئة التخطيط في وزارة الإسكان، ومن ثمَّ مستشار لأمانة بغداد من (1980م)
وحتى (1982م).
المنهج والأسلوب:
يمكن القول بشكل عام، أن أسلوب (رفعت) أعتمد
على إعادة إنتاج أو تجديد المفردة المعمارية، عبر مسار تصميمي جديد ومختلف عن
المسار المحلي والتقليدي، هذا (التجديد) لا يقف عند الشكل وحسب، بل الوظيفة
والمادة والتقنية وكيفية الصناعة. وهو ما جعل أعمال (رفعت) مختلفة عن بقية
(المجددين) في ذلك الوقت. يختلف هذا التوجه مثلاً عن عملية النسخ والتجديد التي
تبناها مثلاً الدكتور مكية في أعماله في نفس الفترة (راجع عدد المجلة الثاني للسنة
الثانية)، وهو ما أشار إليه (رفعت) بشكل مباشر في عدد من مؤلفاته التي تؤرخ عمارة
بغداد في تلك الفترة. أصبح (العقد) هو (الوحدة) التي يوظفها (الجادرجي) في عمله
وفق رؤيته التجريدية والتطويرية، غير أنه تجاوز هذه (الوحدة) في تصميم فيلا (حمود)
عام (1972م)، حيث أصبح العقد هو الكتلة أو الهيكل الإنشائي. وعلى الرغم من أن هذا
الأسلوب كان مسبوق حتى في العمارة المحلية، إلا أن (رفعت) استطاع أن يُعيد صياغة
هذا التشكيل بطريقة حرفية مبتكرة.
الأعمال المميزة:
على الرغم من قلة أعمال (رفعت) واختفاء
بعضها، إما بالإزالة أو الهدم خلال الحروب بالعراق، إلا أن أعماله لازالت باقية في
أذهان العراقيين عن بغداد النبيلة. يرى النقاد أن ذروة عمل (رفعت) كان (نصب الجندي
المجهول)، والذي استوحى تصميمه (رفعت) من انحناء جسد الأم على ابنها الشهيد، ليؤكد
من خلاله على قدرته في رؤية العمارة الحديثة من زاوية فنية تجريدية، البعض الآخر
من النقاد يشير إلى قاعدة (تمثال نصب الحرية) كعمل فني إضافي لا يزال يداعب وجدان
العراقيين عن بغداد في ذلك العصر. حصل (رفعت الجادرجي) على العديد من الجوائز، كجائزة الأغا
خان عن أعماله في (1986م). كما أنه ساهم في إثراء المكتبة المعمارية الفكرية بعدد
من المؤلفات يصل إلى (12) مؤلفاً، كانت بمثابة تجسيد فكري لمرحلة مهمة من العمارة
العربية. في عام (2005م) أسس مؤسسة رفعت الجادرجي، التي تهدف إلى محاربة التشوه
الذي يحصل للعمارة العربية لتتهافت عليه الأوساط المعمارية الأجنبية لتكريمه.