2016/09/19

بينالي البندقية ... نحو عمارة إستشرافية


مقال لـ: خالد بن رشيد
أثناء جولته في أمريكا الجنوبية قابل عالمة أثار ألمانية تتجول في صحراء البيرو، كانت تحمل سلما معدنيا على كتفيها، لم يكن هناك ما يستدعي مشقة حمل مثل ذلك الشيء في صحراء قاحلة، لكن عالمة الآثار كانت تثبت ذلك السلم على الأرض وتعتلي درجاته وتطل من أعلى، لم يكن من الممكن رؤية شيء من الأسفل سوى بعض الصخور المتناثرة بشكل عشوائي، لكن من مستوى أعلى تبدو الصورة أوضح فتتحول تلك الصخور لرسومات لطيور ونباتات، حيث كان ذلك المكان هو موقع (Nazca) الأثري.
تم اختيار تلك الصورة بالغة الرمزية لتلك المرأة وهي تقف أعلى السلم كواجهة لبينالي البندقية للعمارة لهذا العام والذي اختير له عنوان يحمل ذات الفكرة (الاستلهام من البعد الأمامي)، وإن كانت الترجمة غير حرفية، لكني أعتقد بأنها الأقرب للمعنى والأصدق في التعبير عن رؤية البينالي لهذه الدورة، والذي عكسته كافة الأجنحة المشاركة.
العمارة بدورها ألاستشرافي، يقتضي التنبؤ بالتحديات وإنتاج الحلول وعدم حصر دورها في  ردود الفعل على الواقع فقط، هذا التنبؤ قد يوفر الكثير من الخسائر على المستويات المادية والمعنوية، لذلك طرحت الأجنحة المشاركة رؤيتها للإشكاليات الحالية والمستقبلية والحلول التي أنتجتها لتجاوز الحالي منها وتجنب المستقبلي من تلك الإشكاليات. من الجبهة الأمامية وبرؤية واسعة من أعلى، تم استدعاء قضايا الزيادة السكانية، مشاكل الإسكان، اكتظاظ المدن، التلوث البيئي، النفايات، الجريمة، نضوب الموارد، الكوارث الطبيعية، الحروب والاستدامة. واستجد حديثا الأزمة الاقتصادية وانعكاساتها على العمارة وكذلك قضية اللاجئين، والتي باتت قضية مؤرقة خاصة للدول الأوروبية، كل تلك التحديات الحساسة والتي تمس الوجود البشري وجودة الحياة واستمراريتها، تعكس كم وحجم المتغيرات التي على العمارة التعاطي معها والصعوبات التي تواجهها، ودورها الحيوي في إيجاد حلول عملية وقابلة للتطبيق. وهنا أسوق مثالا من الحلول المميزة التي طرحت، وهو المشروع المقدم من معماري من الباراجواي، والذي حصل على الأسد الذهبي كأفضل مشروع مشارك في البينالي، حيث جاء في تقرير لجنة التحكيم بأن المصمم" استطاع تسخير مواد بسيطة وعمالة غير ماهرة لإنتاج هيكل إنشائي مذهل استطاع به إيصال العمارة لمجتمعات محرومة" مهارة المصمم وفهمه الحقيقي لدور العمارة، مكنه من تحويل الندرة إلى وفرة، حيث أثبت بأن ندرة الموارد ليست عائقا حقيقيا ومن خلال التعامل مع أكثر الموارد وفرة وهي لبنات الطين والعمالة غير الماهرة والتي تتوفر لدى كافة المجتمعات، ومع تصميم ذكي متقن تمكن من بناء هيكل إنشائي متين ومريح ومستدام، وهذا يظهر إلى أي مدى تستطيع العمارة إيجاد الحلول والتغلب علي التحديات وإحداث الفارق وفق المعطيات المتاحة، وهو ما يفتح باب النقاش حول الحلول المطروحة في منطقتنا ومدى فهمها لطبيعة الزمان والمكان، فمع المتغيرات المتسارعة من زيادة مفرطة في عدد السكان وانحسار موجة الطفرة الاقتصادية وسياسات تقليل النفقات، بالإضافة لتحديات البيئة وشح الموارد، كل ذلك يحتم علينا البحث عن حلول وفق هذه المعطيات، حلول بسيطة قابلة للتطبيق وقليلة التكاليف، ولكنها بنفس الوقت فعالة، وتجنب الحلول المعقدة والتي تستلزم تقنيات متطورة جدا وتكاليف باهظة، مما يتعارض مع روح الاستدامة.
نحن أمام تحدي تاريخي وكبير، ولا نملك إلا تجاوزه كي لا نضر بفرص الأجيال القادمة في حياة أفضل، ومثل هذا التوجه لا يعتمد على المشاريع الفردية، وإنما على ضمان أن تكون هناك إرادة سياسية كافية  تدعم ذلك وتوجهه كما يقول (علي للو) في مقدمة ترجمته لكتاب (بيان للمدن المستدامة).