في الفترة ما بين عام (1997م – 2000م) كان لي تجربة العمل
في حقل التخطيط العمراني بدولة الإمارات العربية المتحدة، قضيتها في ممارسة مهنية
ميدانية ضمن مشاريع تخطيط الأحياء القديمة والعشوائية المتاخمة للشريط الساحلي في إمارة
عجمان، بهدف تطويرها وإعادة تأهيل بنيتها التحتية الأساسية. حينها كنت حديث التخرج
ولم يكن لدي الخبرة الكافية للتعامل مع هذه القضايا التخطيطية الشائكة، لذلك كنت
أشعر دائماً أن المشاريع التخطيطية التي كنا نقوم بها في تلك المواقع سيكون
تنفيذها أشبه بالمهمة الصعبة والمستحيلة، عطفاً على حالة التدهور في بيئتها
العمرانية
وتركيبتها الديموغرافية الغير متجانسة، بالإضافة إلى ما
تعانيه من مشاكل حضرية معقدة، ناهيك عن السيطرة الاقتصادية الكاملة لإمارتي
الشارقة ودبي وإمتلاكهما عناصر الجذب التنموي، مما أثّر على وتيرة التطوير في إمارة
عجمان التي كانت تعاني من ضعف الموارد الاقتصادية ومحدوديتها آنذاك.
في العام (2012م) عدت إلى إمارة عجمان في زيارة عمل بعد (11)
عاماً من مغادرتها، لم أتمكن للوهلة الأولى من فهمها أو التعرف عليها بشكل سريع
وأنا من كان يسكنها ويعيشها ويحفظ أدق تفاصيلها، لقد تغيرت كثيراً، وتجاوزت حدود
التنمية العمرانية المتوقعة. كنت حريصاً على زيارة المواقع التي قمنا بدراستها
وتخطيطها، لقد فاجأني التحول الجذري الذي حدث لهذه الأحياء القديمة والعشوائية،
والتي لم يكن أحد حينها يتوقع أن تعود للحياة وتصبح وجهة حضرية رئيسة جاذبة
للتنمية على مستوى المدينة، وتتحول لمنطقة أعمال مركزية ذات اقتصاديات متينة
ومتنوعة. تجولت في شوارع تلك الأحياء وفراغاتها العمرانية، حيث عادت بي الذاكرة إلى
الأوقات التي كنا نقضيها في إعداد البدائل التخطيطية لإعادة تأهيلها وحل مشاكلها،
وكان السؤال الكبير الذي راودني: كيف عادت لها كل هذه الحياة في فترة وجيزة مقارنة
بعمر المدينة؟
لم أكن بحاجة لوقت طويل لقراءة السيناريو الذي حدث
للمدينة ومعرفة أن طفرة التنمية الاقتصادية في إمارة دبي إمتدت لإمارة الشارقة،
ومن ثم وصلت لإمارة عجمان بشكل تكاملي ومتسلسل، حيث مثلت عجمان وجهة مميزة
للمستثمرين وراغبي السكن نظرا لقربها من الشارقة ودبي، وكذلك إنخفاض تكاليف قيمة الإيجار
وسعر الأرض المشجع، وبالتالي إرتفعت
معدلات التنمية العمرانية بشكل مضاعف، مما إنعكس على إرتفاع الطلب على الأرض.
ونتيجة لذلك تحققت معادلة (استعادة الحياة) لتلك الأحياء القديمة، التي لم تكن
لتعود للواجهة مرة أخرى مهما كانت قيمتها المعنوية دون نشوء مولد اقتصادي قادر على
زيادة المنفعة الكلية وجذب رؤوس الأموال.
في السعودية، وعطفاً على المقومات الحضرية العالية وتوافر
ممكنات التحفيز المتطورة، فإن القطاع الخاص لديه فرصة تاريخية–لن تعوّض– للإستثمار
في الأحياء القديمة والتي تمثل أحد أهم مراحل نمو المدينة، وقيادة التحول في عملية
إعادة هندسة أعمال ووظائف هذه الأحياء وهندرتها (Reengineering) لاسيما أنها قريبة من المنطقة التجارية المركزية ومن مصادر
البنية التحتية الأساسية. إن التسلسل التاريخي لنمو المدن يثبت أن تركيبتها
الداخلية متغيرة وغير ثابتة، ويتحكم في ذلك بشكل رئيس (الجاذبية الاقتصادية)
القادرة على إعادة هيكلة استعمالات الأراضي وقلب موازين القوى وخلق الميزات
التنافسية، خاصة تلك التي تتواجد وسط العمران، وهذا يؤكد أن التنمية تولد التنمية.
يقول (فونثونن) عام (1826م) (أن المردود الاقتصادي يتحدد من خلال البعد أو القرب من
مركز المدينة)، كما أن إدارات المدن مطالبة بتحفيز هذا الاستثمار وذلك بضخ مشاريع
مركزة تعنى بالتجديد العمراني لتلك الاحياء وإعادة تأهيل بنيتها التحتية وتطوير
خدماتها ومرافقها، وأن لا تبقى عضواً معطلاً في جسد المدينة، ولابد من منحها وزناً
نسبياً عالياً عند إقرار المخططات الهيكلية والتفصيلية وتصنيفها كأقطاب نمو تبنى
عليها فلسفة التنمية والتطوير ومرتكزات المشاريع الاستراتيجية الكبرى، فالقيمة المضافة
للأحياء القديمة بكل إرثها وخصائصها المعمارية والعمرانية والتاريخية تكمن أولاً
في سياسات توظيفها وتحويلها إلى مولد اقتصادي ضمن المنظومة التنموية المتكاملة
للمدينة، فالتجربة العالمية تقول أنه (لا حياة بدون اقتصاد) .